لا يدرك جمال التاريخ إلا قارئ محب لتفاصيله، يربط أَنَسِيَّة الماضي بحداثة الزمن الذي يقع به، فالتاريخ سجّل دُوّن فيه وصفٌ وتحليل وعبرة، فيحفظ الأحداث ومجرياتها بشكل قد يكون بالضرورة محايد ليصل إلى الحقائق والقواعد التي تساعد على استيعاب الحاضر وتواليه في أزمنة متباينة، للتنبوء بالمستقبل وتطوراته ، ويستحيل أن يتحقق الثبات في أمور يتداخل فيها الأنسان المتغير بطبعه، إذًا فالتغير هو شرط من شروط أي نهضة أو حضارة، أو حتى حياة مستقرة على نمط معين، والتي بالنظر لها من بعيد، هي تسير بتغير الزمن وتوالي الحقبات وتبدل أحواله وتطور سنينه ونستطيع أن نقول نكباته ، مما يحتم نهاية حضارة ما وبداية أخرى مما قد يُخلّد ويبقى في الذاكرة، أو يثبت ليستكمله تغير آخر .
فقد مر بحياة هذا الكوكب “حدائق بابل المعلقة” والتي قُدّر أنها كانت مابين عامي 562 و 605 قبل الميلاد وقُدِّرت مساحاتها بـ 14455 متر ، دوّن عنها ديودور الصقلي وصفاً جميلاً هو الأقرب ” كانت في عهد الملك البابلي نبوخذ نصر الذي بناها إرضاءً لزوجته ملكة بابل التي افتقدت لذة العيش في تلال بلاد فارس الآتية منها نحو أرض بابل المسطحة والتي لم تحبها. لذلك قرر نبوخذ نصر أن يُسكنها في مبنى فوق تل مصنوع بأيدي الرجال، وعلى شكل حدائق بها تراسات ، فكانت على شكل تل وتتكون من طبقات ترتفع الواحدة فوق الأخرى تشبه المسارح اليونانية ، سماكة جدرانها حوالي 22 قدم ، ممراتها كانت بعرض عشر أقدام ، وهذه الممرات كانت مغطاة بثلاث طبقات من القصب والقار ، وطبقة ثانية من الطوب ، والطبقة الثالثة تتألف من الرصاص تمنع تسلل الرطوبة تليها كميات من التراب غرست فيها الأشجار، وزودت الحدائق بما تحتاجه من التراب لتتسع لجذور أكبر الأشجار، إذ زُودت الحديقة بأشجار من كل الأنواع و بكثافة. صممت الحديقة بطريقة تسمح للضوء بالوصول إلى كل المصاطب، احتوت الحدائق على مساكن ملكية، وكانت المياه ترتفع إلى قمة الحدائق بآلات ترفع المياه من النهر، وقد صممت بطريقة لا يراها زوارها. كان موقع الحدائق بالقرب من نهر “ولم يحدد أي نهر لكن المؤكد أنها كانت في بابل وبناها نبوخذ نصر” .
وأضاف المؤرخ ( سترابو ) وصفاً وصف فيه آلية رفع المياه فيها بأنها كانت عن طريق أنابيب لولبية ترفع المياه إلى الحدائق، وأنها تقع على نهر الفرات “تم تحديده بالضبط لأول مرة”، وكان ثمة موظفين مهمتهم إدارة هذه اللوالب لرفع المياه على مدار اليوم.
أيضاً مما خلد التاريخ عظمته فن العمارة في سور الصين العظيم من الحضارة الصينية التي امتدت لعشرون قرناً واشتهرت بالقوة العسكرية وسن القوانين لما شهدته من تقدماً واسعاً في مجالي العمارة والتجنيد .
وأيضاً الحضارة الفرعونية الأشهر ، لما تحمله من أغرب وأجمل وأروع البناءات بناها البشر، وليست الأهرامات وحدها التي تشهد بهذا ، بل كل الآثار التي مازال يفك فحصها والبحث في نواحيها أسراراً و شيفرات جديدة حتى وقتنا الحالي ، مما يثير ضد غموضها الذي مازال يتكشف ويدل على عراقتها .
براعة أهلها في فن العمارة والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء دفعهم للكتابة عن ذلك باللغة ( الهيروغليفية) وهي كتابة رسمية لهم آنذاك كانوا يتخذونها في تدوين سيرٍ معطرة تُكتب على قبور موتاهم خاصة رجال السلطة المطلقة ومن ثم تواليهم عليها ملك بعد ملك تُدوّن سيرته ومنجزات عصره .
التاريخ مليء بما هو أدق وأجمل وأكثر إثارة وتشويق ، إنها الحضارات التي ارتقت لها دائماً قدرة على تخليد ذكرها ، فهل سيخلد التاريخ ما قيمته نهضة تكنولوجية تَذكرنا ؟ .